عناقيد الغضب- معاناة المهاجرين في كاليفورنيا وصدى الكلمة

المؤلف: أسعد طه08.11.2025
عناقيد الغضب- معاناة المهاجرين في كاليفورنيا وصدى الكلمة

(1)

الأسر الوافدة من ولايات أخرى نفدت مدخراتها تمامًا للوصول إلى هذه البقعة، لقد باعوا أثاث منازلهم المتواضع، حتى أواني الطهي وأغطيتهم الدافئة، كل ذلك من أجل توفير ثمن الوقود الذي يوصلهم إلى كاليفورنيا؛ أملاً في الظفر بعمل يكفل لهم قوت يومهم، بعد أن فروا من جحيم الجفاف المدمر.

لقد تلاشت الكرامة الإنسانية هنا، وتحولت أرواح هؤلاء البؤساء إلى غضب دفين، يوشك على الانفجار، لقد فقد الكثيرون أعزاء لهم، ورأت الكثير من الأمهات فلذات أكبادهن يذبلون أمام أعينهن؛ لعدم قدرتهن على إرضاعهم جوعًا.

قد لا تكون قد اطلعت على هذه القصة المأساوية بتفاصيلها الدقيقة، لكنك بالتأكيد سمعت عنها؛ إنها "عناقيد الغضب".

(2)

في صباح أحد أيام شهر يونيو من عام 1936، دخل الروائي جون شتاينبك، إلى مكتب رئيس تحرير صحيفة سان فرانسيسكو الليبرالية، جورج ويست، ليعرض عليه فكرة مهمة صحفية جديدة؛ ألا وهي السفر إلى مناطق سكن العمال المهاجرين، والوقوف على ظروفهم المعيشية الصعبة.

ما إن وصل شتاينبك إلى مقاطعة كيرن، حتى انطلق صوب معسكر أرفين، حيث التقى هناك بعدد من المزارعين الذين قصوا عليه حكايات تقشعر لها الأبدان، بعضهم ذكر له أن فرص العمل المتاحة تقتصر على جني المحاصيل مقابل وجبة طعام هزيلة، بينما كان بعض ملاك الأراضي يتصرفون بقسوة بالغة، حيث كانت العقوبة الجاهزة دائمًا هي طرد العمال بعد انتهاء العمل دون أي مقابل مادي.

قضى شتاينبك أيامًا عديدة يتنقل بين العائلات القاطنة في تلك الخيام البائسة، يتحدث إليهم بإنصات، ويسجل كل كلمة منهم بمنتهى الدقة، دون الحاجة إلى تجميل أو تحسين، فالقصص التي رواها العمال والمزارعون كانت مؤلمة بما يكفي لتشكل المادة الخام التي يبحث عنها لكتابة روايته.

نشر شتاينبك سلسلة من المقالات المفصلة، كشف فيها عن الأوضاع المزرية في معسكرات المزارعين، والمعاملة القاسية التي يلقونها من أصحاب الأراضي، وفضح الظلم والاستغلال المتفشي، لكن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد، بل كان يصبو إلى إحداث تأثير أكبر.

John Steinbeck (1902-1968) the American author as a young man, 1935. His novels include The Grapes of Wrath, Of Mice and Men and East of Eden. He won the Nobel prize for literature in 1962. (Photo by © Hulton-Deutsch Collection/CORBIS/Corbis via Getty Images gettyimages-613513778 جون شتاينبك
الكاتب الأميركي جون شتاينبك مؤلف رواية عناقيد الغضب حصل على جائزة نوبل في الأدب 1962 (غيتي)

(3)

في شهر مارس من عام 1938، شرع جون شتاينبك في كتابة روايته المستوحاة من قصة إحدى العائلات التي التقاها في ملاجئ مقاطعة كيرن، مستندًا إلى شهادات المزارعين الذين عايشوا تلك الحقبة، ليصوغ منها قصة عائلة "جود" التي تدور حولها أحداث الرواية.

بعد فترة وجيزة من بدء الكتابة، أرسل شتاينبك إلى وكيلة أعماله يخبرها بأنه قد بدأ العمل في الرواية، معبرًا عن تأثره العميق بالمعاناة التي يشهدها هؤلاء الناس، وكتب يقول: "المعاناة هنا هائلة ومروعة، هذا أكثر شيء يحطم القلب في العالم؛ الألم يعتصرني كلما فكرت في أن جهد شخص واحد لا يكفي لإنقاذ هؤلاء البشر، هذا لا يشبه أن تقابل مجموعة من الأطفال الجائعين وأنت تملك بعض المال في جيبك، ما يحدث هنا لا يمكن تبريره بأي حال، أريد أن أُلصق العار والفضيحة بأولئك الجشعين المسؤولين عن هذه المأساة".

وصل الأمر إلى تدخل المباحث الفدرالية الأميركية التي قررت وضع شتاينبك تحت المراقبة لفترة من الزمن، كما نبذه العديد من معارفه في مسقط رأسه، وامتنعوا عن التواصل معه.

(4)

تدور أحداث الرواية في ثلاثينيات القرن الماضي، بالقرب من الساحل الغربي للولايات المتحدة الأميركية، قبل أن تصبح أميركا التي نعرفها اليوم، كانت الكثير من الولايات في تلك المنطقة عبارة عن مناطق قاحلة تغطيها الصحاري والرمال.

اختفى السكان الأصليون من معظم الولايات ليحل محلهم مهاجرون توافدوا من مختلف الدول الأوروبية وغيرها، عبر سفن هجرة ضخمة في فترة وجيزة، طمعًا في أن تكون أرض أميركا الشاسعة أرضًا خصبة لتحقيق الثراء الذي يحلمون به، بعد أن سمعوا عن كاليفورنيا أنها أرض الذهب، حيث يمكنك أن تجد قطعًا من الذهب تحت قدميك في الشوارع.

في الوقت نفسه، ضرب الجفاف والعواصف الرملية محاصيل المزارعين في ولايات أوكلاهوما وغرب ميسوري وأركنساس، مما أدى إلى تدهور أوضاعهم المعيشية، وقرروا الرحيل إلى كاليفورنيا؛ بحثًا عن عمل في الحقول، أو أي فرصة للحصول على الغذاء والمال.

لكن الواقع الذي وجده المهاجرون والمزارعون كان مختلفًا تمامًا عما توقعوه؛ فقد كان الكساد الاقتصادي الكبير يعصف بالعالم أجمع، وأميركا في مقدمته، تبددت آمالهم وجهودهم، ولم يكن باستطاعة أي مهاجر الحصول على وظيفة إلا بشروط قاسية، تكفي بالكاد لتأمين قوت يومه.

أما أولئك الذين سعوا للعمل في الزراعة فقد واجهوا ظروفًا قاسية وغير إنسانية من أصحاب الأراضي، الذين عاملوهم بازدراء واستغلال، فحصلوا على العمل بشق الأنفس، وبأجور زهيدة لا تكفي إلا لسد الرمق.

في تلك الفترة، تشكلت ما يشبه معسكرات العمال، بجوار المزارع التي يعيشون فيها بالفعل، وتحولت حياتهم جميعًا إلى رحلة مستمرة من الترحال والتنقل بحثًا عن الاستقرار، أو العمل، أو الغذاء.

(5)

وضع شتاينبك لنفسه مهلة زمنية قدرها 100 يوم فقط لإنهاء الرواية، عازمًا على فضح الظلم الذي تعرض له هؤلاء المزارعون، وحدد لنفسه هدفًا بكتابة 10 آلاف كلمة كل أسبوع؛ حتى يتمكن من الانتهاء من الرواية بأسرع وقت ممكن.

تجاوز شتاينبك مشاعر الإحباط التي انتابته، خوفًا من ألا يكون بارعًا بما يكفي لكتابة هذه الرواية التي تستحق أن تروى.

وفي يوم 26 أكتوبر، كتب في مذكراته: "أشعر بأن رأسي سينفجر وعيناي بالكاد تريان، أخيرًا انتهت الرواية، أتمنى أن تكون جيدة بما يكفي".

ما إن نُشرت الرواية حتى اشتعلت كالنار في الهشيم في كاليفورنيا، وبيعت منها أكثر من 430 ألف نسخة، مما شكل تهديدًا لمصالح الأثرياء في الولاية، فقرروا الانتقام من شتاينبك بكل الوسائل المتاحة.

أعلن اتحاد المزارعين، الذي يسيطر عليه أثرياء الولاية، أن الرواية مجرد مجموعة من الأكاذيب، وقرروا حرقها في الساحات العامة أمام الفلاحين والعمال؛ متهمين كاتبها بأنه شيوعي يحرض على الدولة، بينما حظرت بعض المؤسسات الحكومية امتلاك الرواية، وتداولها.

تسلل الخوف إلى قلب شتاينبك؛ فبالرغم من أن الرواية حولته إلى واحد من أغنى الروائيين في ذلك الوقت، إلا أنه كان يخشى أن يأتي اليوم الذي يضطر فيه إلى حمل السلاح؛ لحماية نفسه من تهديدات القتل.

(6)

وصل الأمر إلى تدخل المباحث الفدرالية الأميركية التي قررت وضع شتاينبك تحت المراقبة لفترة من الزمن، كما نبذه العديد من معارفه في مسقط رأسه، وامتنعوا عن التواصل معه.

بحلول نهاية عام 1940، تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي حقق نجاحًا باهرًا، ونال إعجاب الكثيرين، وحصد العديد من جوائز الأوسكار.

لقد تغيرت حياة شتاينبك ليصبح أشهر روائي أميركي في تلك الفترة، وكتب بعدها العديد من الكتب والروايات.

ألم أقل لكم: لا توجد قوة تستطيع أن تهزم الكلمة الصادقة؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة